كيف ينظر الشباب الإسرائيلي إلى واقعه ومستقبله في إطار الدولة الصهيونية؟ وما هو موقف أبناء الجيل الجديد من المبادئ والأفكار التي شكلت عصب المشروع الصهيوني؟
وهل تتفق رؤى هؤلاء الشباب وتطلعاتهم وأحلامهم مع التوجهات والسياسات والممارسات التي تنتهجها النخبة الحاكمة؟ وإلى أي مدى يتمسك هؤلاء الشباب بالتقاليد والشعائر الدينية في تلك الدولة التي تدعي أنها دولة يهودية؟
لابد أن تطرح هذه الأسئلة نفسها على كل من يحاول دراسة الظاهرة الصهيونية دراسةً عميقةً والتعرف على الواقع الفعلي في الدولة الصهيونية واستشراف الآفاق المستقبلية لها، خاصة وأن الدعاية الصهيونية كثيراً ما تقدم صورة وردية لمجتمع فتي متماسك نجح في صهر أعضائه القادمين من أشتات الأرض ومن شتى الخلفيات الثقافية والاجتماعية والعرقية وفي خلق نموذج للشخصية يمثل الحل الأمثل لأمراض وتناقضات الشخصية اليهودية في المنفى، وهو ما يُسمى نموذج العبراني الجديد.
وقد يكون من المفيد، للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، إلقاء الضوء على مقال بعنوان حكاية جيل شاب ضائع في إسرائيل نشرت في صحيفة الصنداي تايمز، في 9 ديسمبر 2001، كتبته واحدة من أبناء هذا الجيل الجديد، وهي الروائية الإسرائيلية دوريت رابينيان، التي وُلدت عام 1972، ويمكن إلى حد كبير اعتباره بمثابة شهادةً تعكس الآراء السائدة لدى قطاع لا يُستهان به من الشباب الإسرائيلي.
تبدأ الكاتبة مقالها بوصف للوضع في إسرائيل، فتقول إنه معقد للغاية ومليء بالتناقضات إلى حد يجعل كل ما سأقوله صحيحاً وخاطئاً في آن معاً. ففي الحيز القائم بين إعلان الحرب والاستسلام للإرهاب، نشأ خواء رهيب في المجتمع الإسرائيلي، ولا يملك أي مسؤول سياسي أو صحفي عاقل أن يقدم أية اقتراحات حقيقية لإنهاء الصراع.
وتمضي الكاتبة لتوضح جذور هذا التناقض، فتقول إن الوعي الإسرائيلي الجماعي ونظرة آبائنا القديمة والشديدة المثالية، والتي كانت كلها تمثل حجر الزاوية في إنشاء الدولة الصهيونية قبل ثلاثة وخمسين عاماً، والتي وحَّدت المهاجرين من مختلف أنحاء العالم في شعب ودولة، هذه النظرة تذهب إلى أنه يتعين على الفرد التضحية بمصلحته وحريته وحياته من أجل المصلحة العامة، ولكنها أصبحت تثير لدى الشباب الآن ضحكة خفية خلال وجبات العشاء الأسرية ليلة السبت.
وإذا كان هذا هو الحال مع عشاء السبت، الذي يتسم بمنزلة خاصة مقدسة في التراث الديني اليهودي وفي التقاليد العرقية لأعضاء الجماعات اليهودية، فماذا عن المقدس الآخر غير الديني، ألا وهو واقعة الإبادة النازية ليهود أوروبا أو الهولوكوست، التي حولها الصهاينة إلى إطار مرجعي وإلى حقيقة جوهرية فيما يُسمى التاريخ اليهودي، بل وماذا عن التاريخ اليهودي نفسه؟ تقول دوريت رابينيان:لطالما أطلقنا النكات عن الهولوكوست... وقد أصبح تاريخ الشعب اليهودي مجرد مادة لاختبارات الالتحاق بالجامعة... لقد أصبحنا نفضل السفر إلى الخارج بدلاً من الاحتفال بأعيادنا الدينية، وصرنا نمارس الجنس ونتحدث عنه، وأصبحنا نقول: من الذي يهتم.
وتنتقل الكاتبة للحديث عن نظرة الشباب لرواد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذين تحيطهم الدعاية الصهيونية بهالة من التمجيد وترفعهم إلى مصاف الأبطال التاريخيين. ومن هؤلاء جوزيف ترومبلدور، الذي شارك في كثير من العمليات العسكرية مع القوات البريطانية، واقترح غزو فلسطين بجيش قوامه 100 ألف يهودي، واستقر في فلسطين وساهم بنصيب وافر في أنشطة الاستيطان إلى أن قُتل في إحدى المواجهات مع العرب قبل تأسيس الدولة، ومن ثم أصبح رمزاً لجيل الرواد القديم، ويُقال إن آخر كلماته قبل موته هي هذه العبارة التي أصبحت من المأثورات الصهيونية:إنه لأمر جيد أن أموت من أجل الوطن. وقد أُقيم له نصب تذكاري، يزوره طلاب المدارس الإسرائيلية مرة كل عام ليروا بأنفسهم المثل الصهيونية وقد تحققت من خلال بطولة قائد ضحى بحياته من أجلها.
وتعليقاً على ذلك، تقول دوريت رابينيان إن هذه الزيارة السنوية كانت تسبب لنا الملل والضجر... وعند بلوغنا سن الثامنة عشرة جُندنا في الجيش لأداء الخدمة العسكرية، واكتشفنا أنه أمر سيئ أن يموت المرء من أجل الوطن. ويُعد هذا الشعور بالتشكك في كثير من المقولات الصهيونية التقليدية أمراً طبيعياً لدى الأجيال الجديدة في إسرائيل، والتي تجد نفسها في أتون حروب ضارية، من حرب لبنان إلى المواجهات المستمرة مع الفلسطينيين في سياق الانتفاضة الأولى ثم انتفاضة الأقصى، دون أن تلوح في الأفق أية بوادر لحياة سالمة آمنة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبناء هذا الجيل، كما ترى دوريت رابينيان، لديهم رغبة عارمة في أن يعيشوا حياتهم على نحو طبيعي، فهم لا يريدون أن يكونوا نموذجاً أو روحاً للشعب، وغاية ما يصبون إليه هو أن يكونوا وكفى، أي أن يتمتعوا بالحياة العادية المستقرة وليس حياة القتال المتواصل التي قادتهم إليها الدولة الصهيونية.
وتمضي الكاتبة لتصور جانباً آخر من حياة الشباب الإسرائيلي بعد إتمام الخدمة العسكرية، فتقول:بعد وقت قصير من تسريحنا نختفي في أبعد مكان يمكن الوصول إليه، مثل معتزلات حكماء وفلاسفة الهند أو أدغال أميركا الجنوبية أو جبال نيوزيلندا. وبعد عام أو عامين نعود إلى الوطن، أو لا نعود، أو نتجه للبحث عن جذور ديانتنا اليهودية، أو نتناول عقاقير النشوة (أكستاس سي، أو إل سي دي) ونتخيل أن موسيقى الديسكو هي الرمز الديني، ونرقص ونرقص، ونحيل تل أبيب إلى واحدة من عواصم أندية النشوة في العالم من شدة الرقص على إيقاعات هذه الموسيقى الصاخبة التي تقرع داخل رؤوسنا.
وترى الكاتبة أن أعداداً من الشباب المسرحين من الخدمة العسكرية يبحثون عن ملاذ لهم في الإيمان الديني بصور بشتى، وهناك آخرون يتجهون إلى قطاع التقنيات المتقدمة ويعملون ليل نهار على أمل أن يحققوا ثراء فاحشاً، أما السواد الأعظم فينضمون إلى صفوف الطبقة المتوسطة وينجبون أطفالاً يعدونهم بأنهم حين يكبرون لن تكون بهم حاجة للالتحاق بالجيش، تماماً كما تمنى آباؤنا، وكما كذبوا علينا.
وتختتم الكاتبة مقالها بالإشارة إلى تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأميركية وانعكاساتها على الشباب الإسرائيلي، فتؤكد أن الولايات المتحدة كانت على الدوام المكان الأول الذي يفكرون في اللجوء إليه هرباً من العنف المستمر في أرض الميعاد، أما الآن فلم يعد هناك مكان يمكن الهرب إليه.
وهكذا، تنهي الكاتبة الإسرائيلية الشابة شهادتها برؤية مظلمة للحاضر والمستقبل تبين أن الحلم الصهيوني قد تحول إلى كابوس مخيف