بقلم/ حسن اليملاحي
"أنخيلا" أهدتني ساعة يدوية صيفية بمناسبة عيد ميلادي، في بلادي لم أحتفل قط بهذا العيد الغريب عني وعن عائلتي. لا أدري كيف سرقت مني الساعة! المهم أنها سلبت مني بمهارة زائدة ليلة البارحة، كنت نائما في الحديقة المجاورة لـ: "الكوريوس". لصوص الحدائق ينتشرون مثل أوراق خريف، يتصيدون ضحاياهم، جميل جدا أن تكون مغفلا لحظة واحدة في حياتك.
"إيميليانو" عميد فرقة تابعة لشرطة البلدية قال أني كنت أشبه بجثة ملقاة تحت "البانكيط"، يقصد كرسيا إسمنتيا ألازمه كلما وطأت قدماي أرض الحديقة. أعوانه كانوا يحاصرون مدخل الحديقة من الجهة الشمالية. بعد تصفح جواز سفري، توقف عن أسئلته إلي. أعلم (أنه يريد الاطمئنان علي)، موظفو البلدية يتأهبون لترتيب الحديقة وتنظيفها إعلانا لبداية يوم جديد.
الاستمرار في النوم لم يعد واردا، أفرك عيني كي أبعده عني، نزلات البرد ولدت لدي تعبا حقيقيا وارتخاء في سائر عضلاتي، لن أذهب هذا اليوم إلى ضيعة "ليديا" لمساعدتها في تنظيف حظيرة الخنازير. لا أقوى على تحمل تلك الروائح، الفلاحون الإسبان يوظفون بولها لتخصيب أراضيهم الفلاحية.
أنصرف إلى مقهى مجاور، في انتظار قهوتي الصباحية، أقضم ـ كالعادة ـ قطعة حلوى، تجدني أحملق في مرآة تغطي نصف الجدار حيث أقبع أنا. العالم يبدو جميلا ومريحا، أحلم بالوصول إليه وأنا أتعلق بأهدابها، لكنني لا أقوى على ذلك.
النادل لم يقم بخدمتي بعد، فقط يمسح بنظارته الحاقدة أرجاء المقهى، المسكين يعتقد أني لا أملك نقودا، تلك عادته، لكن فليذهب إلى الجحيم. لا أريد لنفسي الاستمرار في هاته المسخرة والركون إليها كثيرا.
شمس الصباح بإشراقاتها الصيفية، والسرعة الخفيفة لبعض المارة، والزمن غير الرتيب، يعيد الهدوء لطريق "لاإمباخادا". الفندق الأندلسي لازال يحافظ على شبابه وينتصب عند نهاية أدرج الشارع. أتذكر حميمية "بياتريس" الأندلسية التي تقوم وتتكفل بخدمة الزبناء، بين فينة وأخرى كنا نلتقي ببهو الفندق فنقضي ساعات طوالا أمام التلفاز. لا أخفي أننا كنا نسخر من العالم الخارجي ونحن نتحدث إلى بعضنا. ذات مرة أسرت لي أن سكان إقليم الأندلس يشعرون بالمهانة من قبل بعض "الكتالانيين"، لم أكن وحدي أشعر بهذا الأمر، تجدني أشكر الله. هذا أمر يحصل أيضا للمغاربة.
أمام الفندق وبنفس الباب، الشرفات، الألوان المزركشة لنباتات خضراء بأصص، أجدني أخفي حنيني إلى الغرفة 14، لا أدري إن كان بوسع الفندق ـ هاته المرة ـ أن يتسع لإيوائي بعيدا عن شرودي.
أريد الاختلاء ببعضي عن بعضي كي لا أراني، لم أعد أتحمل الالتقاء بـ "خوانا" و "روسيو". ثرثرتهما ورؤيتهما مصدر إزعاجي، كم كان يتربص بي الآن!
علي إذن أن أتخلص من صداقتهما الشمطاء، وأن أبحث لنفسي عن مصاحبات جديدة، لا أريد المزيد من اللعانات، كفاني غربة لنفسي وعن أمي، كلما اشتقت إلى وطني عاودت قراءة روايتي "الطيبون" و "رفقة السلاح والقمر" لمبارك ربيع.
أمي تسأل عني كثيرا، كلما هاتفتني كنت أكتفي بالقول لها "اني بخير وعلى خير، لا ينقصني سوى النظر في وجهك العزيز"، هذا ما يكتبه ـ عادة ـ المغاربة في مقدمة رسائلهم رغم حاجاتهم ...
أعرف أنها لا تصدقني، ما الذي أفعله مقابل حنوها؟
لا أجد معنى لسيجارتي وهي تمسكني من أصابعي اليسرى، أشرب دخانها، دخانها لا يشربني، أعانقها تعانقني، أستمتع بها إلى درجة السعال، أضيق بها لا تضيق بي، تجدني واهما في كثير من الأحيان، كونها مصدر متعة ونكهة لا متناهية.
اسم "بلاصا دي أوروبا" لم يعد قائما إلاّ في المحررات الرسمية، سكان البلدة غادروها وهجروها لشدة توافد المغاربة واكتساحهم لها، بعضهم يسميها على سبيل السخرية بـ: "بلاصا دي أفريكا".
أشعر بجوع شديد يعصر معدتي، "المورينو" يتفنن في طبخ حمام "البلاصا" بعد أن يسلب منه حريته بعيدا عن أعين رواد الحديقة. أنا لا يروقني حمام البلاصا، أريد لنفسي وجبة "فرانكفورت". أذكر أني اكتشفتها بـ "الباريو تشينو" لما كنت أقضي بعض الأيام مع الصديق "الرامون"، العزيز، لم ألتق به منذ مدة، لا أدري ما فعل به الزمن. أحلم بزيارته كلما ضاقت نفسي.
أنصرف إلى مقهى مجاور، في انتظار قهوتي الصباحية، أقضم ـ كالعادة ـ قطعة حلوى، تجدني أحملق في مرآة تغطي نصف الجدار حيث أقبع أنا. العالم يبدو جميلا ومريحا، أحلم بالوصول إليه وأنا أتعلق بأهدابها، لكنني لا أقوى على ذلك.
النادل لم يقم بخدمتي بعد، فقط يمسح بنظارته الحاقدة أرجاء المقهى، المسكين يعتقد أني لا أملك نقودا، تلك عادته، لكن فليذهب إلى الجحيم. لا أريد لنفسي الاستمرار في هاته المسخرة والركون إليها كثيرا.
شمس الصباح بإشراقاتها الصيفية، والسرعة الخفيفة لبعض المارة، والزمن غير الرتيب، يعيد الهدوء لطريق "لاإمباخادا". الفندق الأندلسي لازال يحافظ على شبابه وينتصب عند نهاية أدرج الشارع. أتذكر حميمية "بياتريس" الأندلسية التي تقوم وتتكفل بخدمة الزبناء، بين فينة وأخرى كنا نلتقي ببهو الفندق فنقضي ساعات طوالا أمام التلفاز. لا أخفي أننا كنا نسخر من العالم الخارجي ونحن نتحدث إلى بعضنا. ذات مرة أسرت لي أن سكان إقليم الأندلس يشعرون بالمهانة من قبل بعض "الكتالانيين"، لم أكن وحدي أشعر بهذا الأمر، تجدني أشكر الله. هذا أمر يحصل أيضا للمغاربة.
أمام الفندق وبنفس الباب، الشرفات، الألوان المزركشة لنباتات خضراء بأصص، أجدني أخفي حنيني إلى الغرفة 14، لا أدري إن كان بوسع الفندق ـ هاته المرة ـ أن يتسع لإيوائي بعيدا عن شرودي.
أريد الاختلاء ببعضي عن بعضي كي لا أراني، لم أعد أتحمل الالتقاء بـ "خوانا" و "روسيو". ثرثرتهما ورؤيتهما مصدر إزعاجي، كم كان يتربص بي الآن!
علي إذن أن أتخلص من صداقتهما الشمطاء، وأن أبحث لنفسي عن مصاحبات جديدة، لا أريد المزيد من اللعانات، كفاني غربة لنفسي وعن أمي، كلما اشتقت إلى وطني عاودت قراءة روايتي "الطيبون" و "رفقة السلاح والقمر" لمبارك ربيع.
أمي تسأل عني كثيرا، كلما هاتفتني كنت أكتفي بالقول لها "اني بخير وعلى خير، لا ينقصني سوى النظر في وجهك العزيز"، هذا ما يكتبه ـ عادة ـ المغاربة في مقدمة رسائلهم رغم حاجاتهم ...
أعرف أنها لا تصدقني، ما الذي أفعله مقابل حنوها؟
لا أجد معنى لسيجارتي وهي تمسكني من أصابعي اليسرى، أشرب دخانها، دخانها لا يشربني، أعانقها تعانقني، أستمتع بها إلى درجة السعال، أضيق بها لا تضيق بي، تجدني واهما في كثير من الأحيان، كونها مصدر متعة ونكهة لا متناهية.
اسم "بلاصا دي أوروبا" لم يعد قائما إلاّ في المحررات الرسمية، سكان البلدة غادروها وهجروها لشدة توافد المغاربة واكتساحهم لها، بعضهم يسميها على سبيل السخرية بـ: "بلاصا دي أفريكا".
أشعر بجوع شديد يعصر معدتي، "المورينو" يتفنن في طبخ حمام "البلاصا" بعد أن يسلب منه حريته بعيدا عن أعين رواد الحديقة. أنا لا يروقني حمام البلاصا، أريد لنفسي وجبة "فرانكفورت". أذكر أني اكتشفتها بـ "الباريو تشينو" لما كنت أقضي بعض الأيام مع الصديق "الرامون"، العزيز، لم ألتق به منذ مدة، لا أدري ما فعل به الزمن. أحلم بزيارته كلما ضاقت نفسي.